تحقيق: رضوان حبيش
بعيون مرهقة وبأيدي مرتعشة جلس علي -اسم مستعار- على مقهى في العاصمة مسقط بسلطنة عٌمان، يُقلب فنجان قهوة ويسترجع ذكرياته قائلًا: “كنت أظن أنني أفر من الموت، فإذا بي أركض نحوه في روسيا.”
خرج علي من بلده اليمن متوجهًا إلى سلطنة عُمان بحثًا عن عمل يُعيل به أسرته، لكنه وقع ضحية لشبكة تهريب يمنيين إلى روسيا، حيث يُجندون للعمل ضمن صفوف الجيش الروسي في حربه ضد أوكرانيا. استغلت الشبكة حاجة الشباب اليمني للمال في ظل حرب مستمرة قرابة 10 أعوام، وجندتهم عبر وعود زائفة بالحصول على الأموال والجنسية.
بحسب عشرات من الحالات التقى بهم المهاجر، فإن عملية استقطاب الشباب اليمني تتم عبر شركة وسيطة مملوكة لبرلماني في مجلس النواب اليمني التابع لسلطات الحوثيين في صنعاء، ورجل أعمال يمني يُدير شركة في مسقط يُدعى عبدالولي الجابري وشقيقه عبدالواحد الجابري، ويساعدهم ضابط روسي يُدعى “ديميتري”. يتوجه عبدالولي الجابري إلى المطاعم والمقاهي التي يعمل بها يمنيين في مسقط، ويوهمهم بفرص عمل مدنية في روسيا بعيدًا عن الحرب الدائرة مقابل مبالغ مالية تتراوح بين 4 و14 ألف دولار، والحصول على الجنسية الروسية بعد عام واحد.
دروع بشرية
يقول علي لـ المهاجر “تبدأ العملية بأخذ جوازات السفر لفترة تتراوح بين شهر و40 يوماً، لإتمام المعاملات في السفارة الروسية بمسقط. ثم يتم نقلهم عبر دبي إلى موسكو، حيث يتم استبدال جوازات سفرهم اليمنية بوثائق روسية”.
لم تختلف قصة علي عن حمود -اسم مستعار- شاب يمني سافر إلى سلطنة عمان ليُعيل أسرته وأمه المريضة بمرض السكري، لكنه وقع فريسة لشبكة تهريب جندته للعمل في الجيش الروسي، ووضع في الصفوف الأمامية للحرب، واستُخدم وأقرانه كدروع بشرية.
يحكي حمود كيف تتم عملية التجنيد قائلًا: يتسلل السمسار بين مقاهي ومطاعم عُمان بحثًا عن الشباب اليمني، ويبدأ حديثه عن توفير وظائف مدنية في روسيا، يُوقع الشباب على عقود عمل مُضللة وغير واضحة البنود.
يُكمل بمجرد الوصول إلى موسكو يجد الشباب أنفسهم في قبضة الجيش الروسي، ويستقبلهم وسيط يمني يُدعى هاني الزريقي، يُشرف على تقسيمهم لمجموعات وتوزعهم على معسكرات التدريب والجبهات بعد مصادرة جوازات السفر.
بعد ذلك يُحمل الشباب على عربات مدرعة ويرسلون إلى الخطوط الأمامية للمعركة على الحدود الروسية- الأوكرانية، ليكونوا دروع بشرية.
علي وحمود ضمن 300 يمني وقعوا ضحية لشبكة الاتجار بالبشر الممتدة بين سلطة عُمان وموسكو، بينما نجا علي واستطاع العودة لسلطنة عمان لم يتمكن آخرين من النجاة.
عالقون تحت النيران
من بين العالقين تحت نيران الحرب، ناصر، الذي ترك وطنه ورفض المشاركة في حرب اليمن، وخرج بحثًا عن الرزق، يقول: أوهمونا بعقود مضللة، نعلم أن هناك حرب بين روسيا وأوكرانيا، لكنهم أخبرونا أن العمل بعيد عن الحرب.
يُضيف لـ المهاجر: بنود العقود كانت مضللة، وعملية التوقيع تمت بسرعة وسرية لم يعطونا مُهلة للقراءة أو عرضها على القانونين، مؤكدًا على أن بنود العقد ضمت العمل في مهن مدنية وفي الزراعة وأنه سُيراعى مؤهلاتهم المهنية في توفير العمل.
بصوت يملؤه الضعف يتحدث ناصر قائلًا: كل همي إيجاد عمل يسد رمقي، لكن وجدت نفسي في الصفوف الأمامية للحرب، يُكال لنا السباب والضرب إذا قررنا التراجع، وحتى الأموال التي وعدنا بها لم نحصل عليها، تصل رواتبنا إلى ألفي روبل فقط.
يُكمل: قُتل العديد من أصدقائي والجرحى لا يُعالجون بل يُتركون في بيوت مهجورة ولا يتم إجلائهم للعلاج، أناشدكم بالعودة إلى بلدي، فأخواتي ليس لهم أحد بعدي.
رحلة إلى الموت
يروي محمود -اسم مستعار- قصة نحو 20 شابًا يمنيًا مع الموت قائلًا: اقتيد أكثر من 20 شابًا بقوة السلاح إلى جبهات القتال، نُقلوا على متن ثلاث عربات عسكرية. العربة الأولى دخلت في خط النار حوصروا داخل مبنى حيث قُتلوا بدم بارد. العربة الثانية انفجرت بعد أن اصطدمت بلغم أرضي. أما العربة الثالثة فتعرضت لهجوم مفاجئ، يُعتقد أنه بطائرة مسيرة أو صاروخ..” هذه ليست مجرد أرقام أو إحصائيات. هؤلاء شباب كانوا يحلمون بمستقبل أفضل، وجدوا أنفسهم وقوداً لحرب لا يفهمون أسبابها.
وفي الأيام الأخيرة، ظهرت فيديوهات لمجموعات من الشباب اليمني، يناشدون إنقاذهم. في أحد هذه الفيديوهات، نرى خمسة شبان في خندق، مضربين عن الطعام، يصرخون بصوت واحد: “نحن لسنا مرتزقة، نحن ضحايا خداع!”
يقول أحدهم: “القوات الروسية تخطط لاستخدامنا كطعم للقوات الأوكرانية والاحتماء خلفنا بعتادهم الكبير.” وتؤكد مصادر مطلعة أن الروس يستخدمون اليمنيين والمجندين من جنسيات أخرى كدروع بشرية في خطوط التماس، لأنهم في الغالب غير جاهزين للقتال لعدم إعدادهم عسكرياً أو تسليحهم بشكل مناسب.
أقرأ أيضًا|خبيرة أممية قلقة من تجنيد الأطفال في السودان
ضحايا خداع
أجمعت جميع الحالات التي خضعت للتجنيد على أن أسلوب التجنيد كان واحدًا، يبدأ بالإيهام بوظائف مدنية في موسكو بمبالغ كبيرة، ثم توقيعهم على عقود مُضللة تتضمن بنودها أن الوظائف بعيدة عن الشأن العسكري، وفي موسكو تُستبدل العقود بأخرى باللغة الروسية، ثم يُدفعون باتجاه الحدود للمشاركة في الحرب دون تدريب مسبق يُحملون على عربات مدرعة لجبهات القتال كدروع بشرية.
يقول خبراء قانونيين اطلعوا على الوقائع سابق ذكرها، أن ما تعرض لها الضحايا يحمل انتهاكات عدة، هي: التوقيع على عقود مليئة بالثغرات القانونية، وتسريع عملية التوقيع دون منح الضحايا الوقت الكافي لقراءة العقود أو استشارة قانونيين.
يوضح الخبراء في القانون الدولي لـ المهاجر، أن تلك العقود تستغل الثغرات القانونية في العديد من البلدان من خلال تمرير البنود المضللة تحت غطاء العمل الشرعي، وهو نوع من الاستغلال يقع ضمن الاتجار بالبشر.
وأكدوا على أن المسئولين في تلك الشركة جعلوا تلك البنود تظهر على أنها قانونية من خلال الحصول على الموافقة الجماعية، بينما هي تحمل بنود مجحفة وفيها الكثير من الخداع والتضليل وعدم تحديد عمل معين، بل تم وضع العديد من الخيارات المفتوحة من أجل إيهام الضحايا أنهم لن يذهبوا إلى الجبهات الأمامية للقتال المباشر، كما أن خرق بنود العقد بمجرد وصول العمال إلى روسيا واعطائهم بنود أخرى باللغة الروسية ورفض الجانب الروسي والشركة الوسيطة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من مبالغ مالية تفوق العشرة آلاف دولار.
ومن جهتها رفعت السفارة اليمنية في موسكو مذكرة إلى السلطات الروسية لكن تحركات الجانب الروسي بطيئة ولا رد حتى الآن، بينما المئات من اليمنيين عالقين تحت نيران حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
اطلع على المزيد
حبر على ورق.. الحوثيون يخرقون اتفاقهم مع الأمم المتحدة ويستمرون في تجنيد الأطفال