السودانيون العالقون على الحدود المصرية: “الهروب من جحيم إلى آخر”
تقرير: سلمى عبدالعزيز
الهروب من جحيم الحرب إلى جحيم آخر، هذا ما خلصت إليه السُّودانية ندى صديق بعد قضائها 10 أيام بمعبر أرقين البري الحدودي بين مصر والسودان.
ندى وهي أم لأربعة أطفال مثلها وآلاف السودانيين الذين غادروا منازلهم هربًا من الحرب المستعرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي دخلت شهرها الثالث؛ واصطدمت بتغيير قواعد دخولها إلى مصر، حيث بات يتعين عليها الحصول على تأشيرة ولم يعد يمكن السماح لها المرور بوثيقة السفر الاضطرارية.
صباح الثاني عشر من يونيو الماضي، اتخذت ندى وزوجها الطبيب بمستشفى السلاح الطبي قرارًا وصفته بالصعب لكنه لا فرار مِنه، حزمت أمتعتها وأطفالها الأربعة الذين يبلغ أكبرهم سنًا 16 عامًا بينما أكمل أصغرهم سنًا عامه الثالث للتو؛ وغادرت منزلها بمنطقة “المهندسين” أحد أهم أحياء مدينة أمدرمان وأشدها عنفًا، بعد أن بدأت قوات الدعم السريع بنهب المنازل التي غادرها أصحابها وأخذ كل ما يجدونه ملائمًا لهم ثمْ يتركونها مشرعة الأبواب ليكمل اللصوص ما بدأوه.
قالوا لزوجي بعد أن طرقوا الباب بشدة:” لماذا لم تغادروا منزلكم حتى الآن؟!، إلاّ ترون أن الحي بأكمله فر هاربًا “.
ثم أمروا زوجي بمغادرة المنزل فورًا إن كانت تهمه حياة أطفاله ووالدته:” بكرة الصباح كان جيينا لقيناك هنا ما تلوم إلا نفسك”.
تقول ندى: عَمل زوجي كان سببًا أساسيًا لصمودنا قُرابة 60 يومًا في واحدة من أشد بؤر الصراع ضراوة نسبة لقربها من بعض المناطق السيادية، لكنه كان يرفض المغادرة بشدة متمسكًا بحاجة المستشفى الذي يعمل فيه وبعض المراكز الصحية في المنطقة له.
في ذلك اليوم عاد مسرعًا للداخل وطلب مني جمع أغراضنا المهمة فقط والمغادرة فورًا. تقول ندى: “تركتُ خلفي المنزل الذي بنيته أنا وزوجي بالمشقة والصبر وأنا أعلم أنه سيتم نهبه وغادرت والألم يشق قلبي”.
أرقين.. فرار السُّودانيين من المُر إلى الأمر منه!
تصف ندى تجربتها بالمريرة فالبقاء داخل المعبر الذي يفتقر للخدمات والاحتياجات الإنسانية الأساسية من مياه وكهرباء وشبكة اتصالات متقطعة 10 أيام “قاسي للغاية”.
لم أكن أعلم أن هناك إجراءات جديدة فرضتها السلطات المصرية، تفاجأت بها فور وصولي، بعد رحلة مضنية استمرت ثلاثة أيام من نقطة الانطلاق بأمدرمان وحتى معبر أرقين.
تذكر ندى ما قاله لها موظف الاستعلامات جيدًا: “غير مسموح بدخول النساء والأطفال دُون تأشيرة، لا استثناءات بعد اليوم”.
إجراءات مشددة
وفي الـ 10 من يونيو الماضي فرضت السُلطات المصرية اشتراطات جديدة لدخول السودانيين مصر ألغت بموجبها كافة التسهيلات المتمثلة في دخول النساء والأطفال تحت سن الـ 16 عامًا دون تأشيرة، والشباب بين سن 16 و49 عامًا يحتاجون إلى تأشيرة دخول وتمنح لهم مجانًا.
حينها قال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبوزيد في تصريح صحفي إن “مصر وضعت سياسة جديدة تطالب جميع السودانيين بالحصول على تأشيرات قبل دخول البلاد، بعد اكتشاف أنشطة غير مشروعة منها إصدار تأشيرات مزورة”.
معاناة ندى وأطفالها الأربعة امتدت 10 أيام تخللتها الوعود والتطمينات من قبل العاملين في المعبر بالعودة إلى التسهيلات السابقة وأن الأمر لن يطول، فقررت البقاء والعشرات من الأسر داخل المعبر لحين انجلاء الأزمة.
تقول لـ المهاجر: لم يكن هناك استراحات إلا القليل من الأكشاك التي يتم تأجيرها بما لا يقل عن 20 جنيهًا سودانيًا للساعة، فيما يتم تأجير السرير بمبلغ ألف جنيه لليلة الواحدة، وتضطر غالبية الأسر افتراش الأرض المليئة بالحشرات.
وتبعد أقرب نقطة بها خدمات ومرافق حيوية عن معبر أرقين داخل السُّودان نحو 500 كيلومتر، ما يصعِّب من احتمالية المكوث فيه فترة طويلة سيما للأسر التي بحوزتها أطفال ومرضى وطاعنين في السن.
وترى صديق أن معاناة السودانيين في معبر أرقين توازي ويلات الحرب التي عاشوها في العاصمة الخرطوم: “قلنا نجي هِنا نرتاح ولم نجد سوى الانتظار والمماطلة”.
وتروي لـ المهاجر قصة أُسرة سُّودانية مكونة من 4 أفراد مات والدهم جراء مضاعفات مرض السكري عقب (7) أيام قضاها في المعبر في انتظار استئناف قرار سريان الوثيقة الاضطرارية: “افترشت له أُسرته الأرض على مقربة مني، وعندما تدهورت صحته، غادروا بِه إلى حلفا، لكن كان الأوان قد فات”.
أعداد كبيرة لطالبي التأشيرة
وتشهد القنصلية المصرية في مدينة وادي حلفا السودانية زيادة كبيرة في عدد المواطنين السودانيين الذين يسعون للحصول على تأشيرة دخول للبلاد بعد أن تطبيق اللوائح الجديدة.
وقال عبدالله خضر -53 عامًا – إن عشرات السودانيين بينهم نساء وأطفال ينتظرون لأيام وأحيانا تمتد لأسابيع أمام القنصلية المصرية للحصول على التأشيرة.
واصفًا القرار الأخير بالمجحف خاصة للأشخاص أمثاله الذين في حاجة ماسة للرعاية الطبية وتلقي العلاج. ويطالب خضر في حديثه لـ المهاجر ضرورة استثناء الحالات الخاصة من النساء الحوامل والأطفال والمرضى والطاعنين في السن من هذه الإجراءات المشددة “الأوضاع في السودان تزداد سواءً والعودة لمثل هذه الحالات حُكم مسبق بالموت”.
ومنذ اندلاع الحرب في السُّودان استقبلت مصر أكثر من 250 ألف مواطن سوداني تُضاف هذه الأعداد إلى ما يقارب الـ 5 مليون مواطنًا سودانيًا متواجدين بالفعل في مصر منذ قبل بداية الأزمة وفق أرقام رسمية للسفارة السودانية في القاهرة، بينما يزيد عدد المسجلين بصفتهم لاجئين لدى مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة على 60 ألف شخص.
تردي الأوضاع الأمنية والإنسانية في السودان
تعيش الشابة شيماء قلقًا مستمرًا على أسرتها المحتجزة في العاصمة الخرطوم، تفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية والنقص الحاد في المواد الغذائية وصعوبة الحصول على الأدوية الضرورية، جعل حياة أسرتها معرضة للخطر في أي وقت.
بعثت شيماء في حديثها لـ المهاجر نداء استغاثة تطالب عبره بإيجاد حلول للسودانيين الراغبين في دخول مصر هربًا من الحرب بقولها: “شقيقي من ذوي الاحتياجات الخاصة وأوراقه الرسمية غير مكتملة، وبقية أفراد الأسرة من النساء والأطفال حال قرار فرض التأشيرة الأخير من دخولهم مصر”.
وتتابع: كُنا نأمل الاستفادة من التسهيلات التي وفرتها مصر مع بدايةً الصراع في السُّودان والاستفادة من بنود الحريات الأربعة والان كل ذلك ذهب أدراج الرياح ولا نعلم ما الذي يتوجب علينا فعله، الانتظار أكثر وأصوات الرصاص فوق رؤوسنا تبدوا كمن يترقب موته كل يوم تشرق فيه الشمس.
أثناء إعداد هذا التقرير أخبرتني ندى بعودتها وأطفالها الأربعة إلى مدينة دنقلا ـ تبعد عن معبر أرقين مسافة 8 ساعات ـ حيث أُصيب طفلها البالغ من العمر 3 سنوات بالتهاب حاد كاد أن يفتك به بسبب درجات الحرارة المرتفعة وانعدام المرافق الصحية والكهرباء، تقول: “بائت محاولة النجاة بأطفالي بالفشل ولم أملك خيار ثاني سوى العودة إلى السودان”.